الألعاب الأولمبية، ذلك الحدث العالمي الذي يترقبه المليارات كل أربع سنوات، يعود مجددًا ليبهر العالم. ومنذ آخر دورة أولمبية في عام 2020، شهد العالم تحولًا جذريًا مع ظهور الجيل الجديد من الذكاء الاصطناعي، الذي بدأ في إحداث تغييرات عميقة في مختلف جوانب حياتنا.
أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من قطاعات متعددة كالرعاية الصحية والزراعة والصناعة والنقل، كان من الطبيعي أن يمتد تأثيره ليشمل عالم الرياضة. استجابةً لهذا التطور، قررت اللجنة الأولمبية الدولية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في تنظيم وإدارة دورة هذا العام.
سيكون لهذه الخطوة آثار واسعة النطاق على مختلف جوانب الألعاب الأولمبية؛ إذ تهدف إلى تعزيز سلامة الرياضيين، وتحسين تجربة البث للمشاهدين، ورفع كفاءة إدارة الموارد والطاقة. لا تقتصر هذه المبادرة على تحسين النسخة الحالية من الألعاب فحسب، بل تمهد الطريق لدورات أولمبية مستقبلية أكثر تطورًا وابتكارًا؛ ما يعد بعصر جديد من الرياضة العالمية.
ونسق الشريك العالمي لتقنية المعلومات في الحركة الأولمبية، Atos، فريقًا مكونًا من 15 شريكًا تكنولوجيًا يتألف من أكثر من 2000 خبير، يعملون جميعًا لجعل دورة الألعاب الأولمبية والبارالمبية باريس 2024 متصلة تمامًا وآمنة ومعززة تكنولوجيًا.
لأول مرة في تاريخ الأولمبياد سيهتم الذكاء الاصطناعي بالرياضيين في كافة الجوانب؛ ابتداءً برصد الإساءات الموجهة لهم عبر الإنترنت، وذلك من خلال مراقبة مئات الآلاف من الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي والإبلاغ عن الرسائل المُسيئة؛ إذ من المتوقع أن يصل عدد المنشورات إلى نصف مليار منشور خلال الدورة.
بالتعاون مع علي بابا؛ سيتوفر عدد قياسي من أنظمة الإعادة متعددة الكاميرات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، وتلتقط الكاميرات المتعددة صورًا للحدث الرياضي من زوايا مختلفة. ثم يحلل الذكاء الاصطناعي هذه الصور ويعمل على رفع جودتها باستخدام الحوسبة السحابية؛ ما يوفر قدرة معالجة أكبر مقارنة بالأجهزة المحلية.
بعد ذلك، يدمج النظام الصور المعالجة لإنشاء نموذج ثلاثي الأبعاد للمشهد الرياضي؛ ويتيح هذا النظام إنشاء مشاهد من زوايا لم تصورها الكاميرات فعليًا! على سبيل المثال، يمكن عرض اللعبة من نقطة رؤية للاعب معين، حتى لو لم تكن هناك كاميرا في تلك النقطة بالضبط. الميزة الرئيسية لهذه التقنية هي قدرتها على توليد مشاهد من أي زاوية محتملة؛ ما يوفر للمشاهدين إمكانية استكشاف المباراة من وجهات نظر متعددة؛ بالإضافة إلى استفادة المحللين الرياضيين أيضًا.
ومن خلال تلك التقنية ستُبتكر نماذج ثلاثية الأبعاد ورسم خرائط لنقاط رؤية إضافية عبر 21 رياضة وتخصصًا. كما سيستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين تجربة البث والمشاهدة من خلال إنشاء مقاطع فيديو لأبرز الأحداث بصيغ ولغات متعددة.
إذا وجد نظام ذكاء اصطناعي بالكاميرات بالطبع وجدت الصين، فلا منافس لها!
وسيستخدم نظام متقدم لتجميع البيانات وإدارة الطاقة للمرة الأولى، من خلال مراقبة استهلاك الطاقة لحظةً بلحظة، واستخدام البيانات المجمعة للتخطيط المستقبلي للأولمبياد؛ إذ تهدف اللجنة الأولمبية الدولية إلى التحسين المستمر في تنظيم وإدارة الألعاب الأولمبية، مع التركيز بشكل خاص على جعلها أكثر استدامة وكفاءة من ناحية استخدام الطاقة.
انضم عملاق أشباه الموصلات إنتل للحدث؛ من خلال مشروع طموح لدعم الألعاب الأولمبية في باريس 2024؛ إذ أنشأت 30 توأمًا رقميًا لمواقع رئيسية في المدينة. تشمل هذه المواقع معالم بارزة مثل برج إيفل، وساحة الكونكورد، وفندق الإنفاليد. هذه التوائم الرقمية هي في الواقع نماذج ثلاثية الأبعاد متطورة للأماكن التي ستستضيف الفعاليات الأولمبية.
وفرت هذه التقنية المبتكرة فوائد جمة لمنظمي دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024. فقد مكنتهم من العمل بكفاءة وتعاون أكبر؛ إذ أتاحت لهم إمكانية التحضير عن بُعد لمختلف جوانب الحدث. وشمل ذلك تخطيط إجراءات الأمن وترتيب الأمور اللوجستية ووضع استراتيجيات للتحكم في الحشود. نتج عن استخدام هذه التقنية فوائد إضافية هامة. فقد ساهمت في خفض التكاليف الإجمالية لتنظيم الحدث؛ كما أدت إلى تقليل الأثر البيئي للألعاب الأولمبية من خلال الحد من الحاجة إلى السفر المتكرر للمواقع الفعلية. وبهذا؛ تجمع هذه المبادرة بين الكفاءة التنظيمية والاستدامة البيئية.
وتقدم إنتل ميزة جديدة تعمل على تجميع اللحظات الرئيسية لـ 14 رياضة وتخصص باستخدام الذكاء الاصطناعي وإعادة بثها في هيئة مقاطع ملخصة بناءً على تفضيلات مالكي حقوق البث في الإعلام. وتهدف تلك الميزة إلى تخصيص محتواهم وزيادة تفاعلهم مع الجمهور عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
تعتمد تلك الميزة على نماذج ذكاء اصطناعي مُدربة باستخدام أدوات البرمجيات Intel Geti AI المتخصصة في معالجة المحتوى البصري المدعوم بالذكاء الاصطناعي؛ ودُربت تلك النماذج الرياضية باستخدام محتوى من الأرشيف الضخم لمقاطع الفيديو الرياضية الأولمبية.
ويكتمل الجانب التقني بانضمام الراعي الرسمي للأولمبياد، سامسونج، إذ عمل العملاق الكوري الجنوبي على تجهيز هواتف Galaxy S24 Ultra على قارب كل دولة خلال حفل الافتتاح على نهر السين لتوفير لقطات حية عبر شبكة 5G الحصرية المدعومة من شركة الاتصالات الفرنسية أورانج.
سيُستخدم الذكاء الاصطناعي أيضًا من قِبل خدمات البث الأولمبي خلال باريس 2024 بالتعاون مع شركاء اللجنة الأولمبية الدولية التجاريين والبثيين؛ وذلك لتحسين سير العمل الداخلي، وتعزيز تجربة المشاهد، وإثراء السرد القصصي، وشرح بعض الأحداث الرياضية بشكلٍ أفضل.
من كان ليصدق تلك القفزة الثورية في تاريخ الأولمبياد؛ لكن تلك هي التقنية! ففي أولمبياد باريس 2024ـ سيستخدم الذكاء الاصطناعي للمساعدة في تحديد الفائزين والخاسرين، وكذلك أسباب وكيفية تحقيق هذه الانتصارات والخسائر. كانت شركة أوميغا، الحارس الرسمي للوقت في الألعاب منذ عام 1932، وفي تلك الدورة ستكون مسؤولة عن معظم البيانات الرقمية التي ستنتج خلال الألعاب الأولمبية.
قديمًا كان قياس الوقت وتسجيل النتائج يعتمد بشكل أساسي على الساعات اليدوية والقدرات البشرية.
بدأت شركة أوميغا بابتكارات جديدة في المركز الأولمبي للألعاب المائية من خلال تركيب أربع كاميرات ذكية تستخدم “الرؤية الحاسوبية” لتحليل حركات السباحين في الوقت الحقيقي. هذه الكاميرات قادرة على حساب معدل الضربات لكل رياضي والمسافة التي يغطيها؛ ما يوفر تحليلًا ميكانيكيًا حيويًا كاملًا للسباق.
المركز الأولمبي للألعاب المائية هو المنشأة الرياضية المخصصة لاستضافة مسابقات الرياضات المائية خلال الألعاب الأولمبية وستقام فيه منافسات السباحة والغطس والسباحة الإيقاعية وكرة الماء.
في رياضة الغطس، طُور نظام لقياس المسافة بين رأس الغطاس واللوحة بدقة ليساعد الحكام في تحديد ما إذا كان يجب خصم نقاط للاقتراب غير الآمن من اللوحة. وبالنسبة لألعاب القوى؛ في سباقات المضمار، طورت كاميرا جديدة تلتقط 40,000 إطار في الثانية! لتحديد الفائز بدقة أكبر. كما زُودت أرقام المتسابقين بمستشعر بحجم بطاقة الائتمان تقريبًا يرسل بيانات مستمرة عن موقع العداء وأدائه؛ ما يوفر تحليلًا شاملًا للسباق.
وتصل البيانات من خلال سلسلة من الهوائيات (Antennas) ترسل المعلومات إلى أجهزة كمبيوتر عالية السرعة تحسب مواقع جميع الرياضيين على المضمار، وخطواتهم، ومعدل خطوهم، والاتجاه الذي يسيرون فيه باستمرار. وترسل الهوائيات حوالي 2000 نقطة بيانات (data points) في الثانية إلى غرفة ضبط الوقت.
وفي الكرة الطائرة الشاطئية، ستعمل الكاميرات الذكية على تتبع حركات اللاعبين وحساب المسافات التي يغطونها وسرعة الكرة، لفهم أعمق لتكتيكات اللعبة.
ومن الألعاب المُحببة إلي، التنس؛ سيستخدم نظام تكنولوجي متطور في مباريات التنس. صُمم هذا النظام لقياس وتحليل جانبين أساسيين في اللعبة؛ وقت رد فعل المستقبل على الإرسال، وجودة ضربة الإرجاع؛ والذي يقدم رؤى جديدة حول أهم ضربتين في اللعبة وفهم أفضل لعلاقة سرعة رد الفعل بجودة الأداء.
ووفقًا لـ The Athletic الهدف الرئيسي من هذه الابتكارات هو قياس المنافسة بدقة دون إزعاج الرياضيين؛ إذ تركز هذه التقنيات على الميكانيكا الحيوية بدلًا من القياسات الحيوية؛ ما يوفر طريقة جديدة لقياس الوقت وشرح الأداء بشكلٍ أكثر تفصيلًا وموضوعية. وستمكن هذه التطورات التكنولوجية المشاهدين من تجربة تقلبات المنافسة بطريقة غير مسبوقة والذي سيضيف بعدًا جديدًا لمتعة مشاهدة الألعاب الأولمبية.
سيستمتع مليارات حول العالم هذا العام بتجربة أولمبياد غير مسبوقة؛ فنحن الآن نعيش ونشهد التحولات التقنية الثورية في شتى المجالات، ونحن من شهدنا امتزاج الماضي بالمستقبل. لقد حظينا بامتياز الاستمتاع بجمال الأساليب التقليدية، وفي الوقت نفسه، شهدنا بانبهار كيف تُعيد التقنيات الحديثة تشكيل عالمنا. هذه التجربة الفريدة من نوعها، هذا المزيج الساحر بين الأصالة والحداثة، لن يتكرر. فالأجيال القادمة ستولد في عالم قد تبلورت فيه هذه التحولات بالفعل.
ويرجى الإشارة إلى أننا ننقل لكم أحدث التقنيات، والتي تصادف أنها في جانب يملؤه الفساد من العالم. وأرغب في أن أضيف أيضًا أن الأولمبياد حدث مرموق لا ذنب له فيما يتورط به من الحثالات الفكرية التي تحيط بنا وتعيث في الأرض فسادًا.