أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، أمس، فوز العالمين (جيفري هينتون) Geoffrey Hinton، و(جون هوبفيلد) John Hopfield، بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024، تقديرًا لإسهاماتهما الثورية في تطوير مجال التعلم الآلي عبر الشبكات العصبية الاصطناعية، التي تشكل العمود الفقري للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته التي نشهدها حاليًا.
وقد أعرب البروفيسور هينتون، الذي يُعدّ الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، عن دهشته العارمة للفوز بهذه الجائزة الرفيعة. ويأتي هذا التكريم بعد استقالته من شركة جوجل في العام الماضي، حتى يتمكن من التحدث بحرية عن تطور الذكاء الاصطناعي ومخاطره كما أوضح سابقًا في العديد من مقابلاته.
وقالت الأكاديمية في بيان: “لقد استخدم العالمان (هوبفيلد) و(هينتون) أدوات من الفيزياء لتطوير أساليب تشكل الأساس للتعلم الآلي القوي اليوم. لقد ابتكر جون هوبفيلد ذاكرة ارتباطية يمكنها تخزين البيانات المرئية واسترجاعها وأنواع أخرى من الأنماط في البيانات. كما اخترع جيفري هينتون طريقة يمكنها اكتشاف الأنماط الخفية في البيانات تلقائيًا، ومن ثم أداء مهام مثل تحديد عناصر معينة في الصور”.
وأشادت إلين مونز، رئيسة لجنة نوبل للفيزياء، بأهمية إسهامات العالمين الفائزين، مؤكدة دورها المحوري في تطوير العديد من التطبيقات الفيزيائية. وقالت: “نحن نستخدم في الفيزياء الآن الشبكات العصبية الاصطناعية في مجموعة واسعة من المجالات، مثل تطوير مواد جديدة بخصائص محددة”.
الدكتور جيفري هينتون، هو عالم حاسوب وعالم نفس معرفي، ويشغل الآن منصب أستاذ في جامعة تورونتو في كندا، ويُعدّ من أهم الشخصيات في مجال الذكاء الاصطناعي، إذ يُلقب بـ (الأب الروحي للذكاء الاصطناعي). وُلد في لندن في ديسمبر 1947، واشتهر بعمله على الشبكات العصبية الاصطناعية، وهي التكنولوجيا التي شكلت أساسيات التعلم العميق، وهو فرع من الذكاء الاصطناعي.
وقد بدأ الدكتور هينتون البحث في الشبكات العصبية كطالب دراسات عليا في جامعة إدنبرة في أوائل السبعينيات، وهو الوقت الذي لم يؤمن فيه سوى عدد قليل من الباحثين بالفكرة. وبعد عقود، جدد الدكتور هينتون اهتمامه بالشبكات العصبية، وشكّل فريقًا بحثيًا بدعم كندي لتعزيز هذا المجال الواعد.
وفي عام 2012، حقق الدكتور هينتون وفريقه إنجازًا بارزًا في تحدي (ImageNet) باستخدام نموذج (AlexNet)، مما أدى إلى تقدم كبير في مجال الرؤية الحاسوبية، ومنذ ذلك الحين أصبح التعلم العميق جزءًا لا يتجزأ من تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخاصة في مجالات مثل تعرّف الصور، ومعالجة اللغة الطبيعية. وقد دفعه هذا الإنجاز إلى الانضمام إلى شركة جوجل للمساهمة في تطوير هذه التقنية.
وفي عام 2019، توجت جهود الدكتور هينتون بحصوله مع يوشوا بينجيو، أستاذ علوم الحاسوب في جامعة مونتريال الذي تُركِّز أبحاثه في ضمان تطوير الذكاء الاصطناعي بأمان، ويان ليكون، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في شركة ميتا، على جائزة تورينج، التي يُطلق عليها اسم (جائزة نوبل للحوسبة)، لعملهم على الشبكات العصبية.
أما الدكتور جون جيه هوبفيلد، فهو من مواليد شيكاغو في يوليو 1933، وهو أستاذ فخري في جامعة برينستون، ومعروف باكتشافاته الرائدة في علوم الحاسوب والأحياء والفيزياء.
بدأ الدكتور هوبفيلد حياته المهنية في مختبرات بيل في عام 1958 كفيزيائي يدرس خصائص المادة الصلبة، ثم في عام 1961، انتقل إلى إلى الأوساط الأكاديمية، وشغل مناصب مختلفة في جامعات بارزة مثل: جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وجامعة برنستون، ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا.
وفي عام 1986، شارك في تأسيس برنامج الدكتوراه في الحوسبة والأنظمة العصبية بمعهد كالتيك، ليواصل بذلك تقديم إسهامات متعددة في مجالات التقاطع بين الفيزياء، والأحياء، والذكاء الاصطناعي.
ابتكر الدكتور هوبفليد في عام 1982، الذاكرة الترابطية أو ما عُرف لاحقًا باسم (شبكة هوبفليد) Hopfield network، وهي آلية ذكية تمكن الآلات من تخزين (ذكريات) يمكن استرجاعها عند تزويدها بمعلومات جزئية، على غرار الطريقة التي يستخدمها دماغك لتذكر كلمة على طرف لسانك.
وتتميز هذه الشبكة بقدرتها الفريدة على إكمال الأنماط الناقصة أو تصحيح الأخطاء الموجودة فيها، وذلك من خلال مقارنتها بالأنماط المخزنة سابقًا والعثور على أقرب تطابق.
وتتكون شبكة هوبفيلد من عُقد، مثل الخلايا العصبية تتصل ببعضها بقوة متفاوتة، ويمكن لكل عقدة تخزين قيمة إما 0 أو 1، على غرار وحدات البكسل في صورة بالأبيض والأسود.
وقد استلهم هوبفيلد فكرة شبكته العصبية من قوانين الفيزياء، إذ شبه عملها بنظام مغناطيسي يحاول الوصول إلى حالة استقرار يُستهلك فيها أقل قدر من الطاقة. وقام هوبفيلد بحساب هذه الطاقة بناءً على قيم كل نقطة في الشبكة وقوة الترابط بينها.
وعندما يُعرض على الشبكة صورة جديدة، تحاول الشبكة تعديل نفسها لتقليل هذه الطاقة، وغالبًا ما تُعيد إنشاء الصورة الأصلية التي دُربت عليها، ويمكن القول إن الأمر أشبه بتعليم الشبكة تذكر صورة ثم تعرّفها أو إعادة إنشائها من نسخة مختلطة.
وعندما نشر هوبفيلد ورقته البحثية حول الذاكرة الترابطية، كان جيفري هينتون يعمل في جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرج بالولايات المتحدة. وكان قد درس علم النفس التجريبي والذكاء الاصطناعي في إنجلترا وإسكتلندا، وكان يبحث عن طرق لتمكين الآلات من تعلم المعلومات وتصنيفها كما يفعل البشر.
وبالتعاون مع زميله تيرينس سينوفسكي، بدأ الدكتور هينتون من (شبكة هوبفيلد) ووسعها باستخدام الفيزياء الإحصائية لتطوير نموذج أكثر تعقيدًا.
ففي عام 1985، استخدم الدكتور هينتون (شبكة هوبفيلد) مع معادلة بولتزمان – وهي معادلة أساسية في الفيزياء الإحصائية تصف كيف تتغير حالة نظامٍ فيزيائي مع مرور الوقت، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الفيزيائي النمساوي لودفيج بولتزمان الذي صاغها في القرن التاسع عشر – وابتكر ما أطلق عليه اسم (آلة بولتزمان) Boltzmann Machine، وهذه الآلة تستخدم نوعين من العقد: الأولى تتفاعل مباشرة مع البيانات المدخلة، والثانية تعمل كطبقة مخفية تساهم في حساب الطاقة الكلية للنظام، مما ساعدها في تعلم التمثيلات المعقدة للبيانات.
وتتميز آلة بولتزمان بقدرتها على تعرف الأنماط، إذ يمكنها تصنيف الصور أو إنشاء صور جديدة بناءً على الأنماط المكتسبة. وتُعدّ أحد الأمثلة الأولى لنماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي تتحسن من خلال التدريب على البيانات الموجودة، مثل ChatGPT.
وفي العقود التي تلت ذلك، استكشف الدكتور هينتون وزملاؤه أشكالًا أخرى من الشبكات العصبية، التي أدت في النهاية إلى ظهور مجموعة واسعة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يشمل أنظمة تعرّف الكلام وتطبيقات ترجمة اللغة وروبوتات الدردشة الذكية.
ويمثل تبادل الأدوات بين الفيزياء والتعلم الآلي علاقة مثمرة، فبعد أن قدمت الفيزياء أدوات أساسية لتطوير خوارزميات التعلم الآلي، بدأت هذه الخوارزميات بدورها في إحداث ثورة في مجال الفيزياء. لقد شهدنا بالفعل استخدامات واسعة للتعلم الآلي في اكتشافات ثورية سابقة حصلت على جائزة نوبل، مثل: اكتشاف جسيم هيغز، وتحليل موجات الجاذبية، والبحث عن الكواكب الخارجية.